رحلة ثقافية في مكانة الحجم في الفكر الإنساني

اود الافادة بأنني بصدد دراسة مكانة الحجم في التحليل و تقييم السهم و التداول ...

و حتى نحقق المطلوب لا بد من الرجوع إلى الأسس و الجذور في نشأة الحجم في الأرث الانساني..و ماذا يشكل في ذاكرة الإنسان حين يتفكر ...

لا ان نكتفي بالفهم السائد و المختزل في ان الحجم احد ادوات التحليل الفني

و خير وصف لذلك ما عبر عنه الشاعر .. و شرح المقصود به

لن تبلغَ الفرعَ الذي رُمْتَهُ ... إِلا ببحثٍ منك عن أسِّه

هذا البيت الشعري يعني أنك لن تصل إلى غايتك أو مرادك (الفرع) ما لم تبذل جهدًا في البحث عن أساسيات الموضوع أو العلم الذي تريده، فالوصول إلى النتائج النهائية يتطلب فهمًا عميقًا للمبادئ والجذور (الأصل) أولًا.

البيت يشدد على أهمية الأصول والمقدمات كشرط لتحقيق الفروع والنتائج المرجوة،

وهو درس في أهمية العلم والبحث العميق.

لن تبلغ الفرع الذي رمته:

لن تصل إلى الهدف الذي ترغب فيه أو الغاية التي تسعى إليها (الفرع هو النتيجة أو الغاية).إلا ببحث منك عن أسه:
إلا
إذا بحثت جيدًا عن أصل الشيء وأساسه ومبادئه الأولى.

المعنى العام: تحقيق الأهداف المتقدمة يتوقف على إتقان الأساسيات، ولا يمكن قطف الثمار دون الاهتمام بالجذور.....


و تأسيسا على ذلك أمضي في الدراسة

علي آل بن علي
 
التعديل الأخير:

1) مقدّمة: ما هو "الحجم" في جوهره؟​


إذا جرّدنا الفكرة لأبسط شيء:
الحجم = كمّية شيءٍ ما في حيّز معيّن أو في زمن معيّن.


  • في الطبيعة البدائية:
    • حجم الماء في الجرّة.
    • حجم الحبوب في المخزن.
    • حجم القطيع (عدد الرؤوس).
  • في الفكر العلمي:
    • حجم الجسم (m³).
    • حجم السائل المتدفق في الثانية (L/s).
  • في الاقتصاد والأسواق:
    • حجم التداول (عدد الوحدات المتبادلة في فترة زمنية).

إذن "الحجم" ليس مجرّد رقم؛ هو ترجمة رقمية لشيء “كثير/قليل”:


كم عندي؟
كم يتحرّك؟
كم يمرّ؟
كم يتغيّر؟

ومن هنا يبدأ تاريخه مع الإنسان.




2) حجم للبقاء – الإنسان قبل الحضارة​


أ) الحجم كغريزة قبل أن يكون رقمًا​


قبل الأرقام والقياس، الإنسان الأوّل كان يعرف "الحجم" بغريزته:


  • يعرف أن هذا الكهف أوسع من ذاك ⇒ أقدر أسكن فيه مع عائلتي.
  • وهذه الشجرة ثمرها أكثر من تلك ⇒ أفضّلها.
  • وهذه المجموعة من الحيوانات أكبر عددًا ⇒ خطر أكبر أو رزق أكبر.

إذن:


  • لم يكن هناك "متر" و"لتر"، لكن كان هناك:
    • كبير / صغير
    • كثير / قليل
    • يَكفي / لا يكفي

ب) من الغريزة إلى أول "قياس بدائي"​


مع الاستقرار الأولي في القرى والزراعة، ظهرت أسئلة جديدة:


  • هل يكفيني هذا الحجم من القمح للشتاء؟
  • كم يحتاج حقل واحد من البذور؟
  • كم وعاء ماء نحتاج للرحلة؟

هنا بدأت تظهر:


  • الوعاء كوحدة حجم (جرّة، قربة، سطل…)
  • المقارنة: هذا الخزان = 10 جرار، وهذه الحفرة = 20 جرّة.

بمعنى:
الحجم بدأ يتحوّل من شعور غريزي بـ"الكثرة" إلى مفهوم شبه منظّم للاستمرار في الحياة.
 

حجم الإنتاج والحشود – الاقتصاد الحديث​


القرن 19 و20 قدّم نقلة نوعية:


لم نعد نتعامل مع "أحجام أشياء" فقط، بل مع أحجام حشود وسلوك جماعي.

أ) حجم السكان: الديموغرافيا​


  • حجم السكان في مدينة أو دولة = عنصر رئيسي في:
    • التخطيط الاقتصادي.
    • توزيع الموارد.
    • سوق العمل.

ظهر علم الإحصاء:


  • لا يهتم بفرد واحد، بل بـ حجم العينة وحجم المجتمع.

ب) حجم الإنتاج والتجارة​


في الاقتصاد:


  • حجم الصادرات.
  • حجم الواردات.
  • حجم الدين العام.

كلها أرقام تمثل كمية ضخمة من التعاملات في العالم الحقيقي.


ج) الحجم في الأسواق المالية (مدخل تمهيدي)​


دون الدخول في تفاصيل فنية، يكفي الآن فكرة أساسية:


في الأسواق، "الحجم" هو عدد الوحدات التي انتقلت من يد إلى يد في زمن محدد.

وأهمية ذلك إنسانيًا:


  • الحجم يكشف قوة القناعة عند البشر:
    • هل اشتري عدد كبير من الناس بهذا السعر؟
    • أم تحرك السعر دون مشاركة تُذكر؟

هنا نقترب كثيرًا من عالمك:
الحجم يتحوّل إلى لغة لسلوك الجموع.




7) المرحلة السادسة: عصر البيانات – الحجم الرقمي والمعلوماتي​


القرن 21 أضاف بُعدًا جديدًا تمامًا:


أ) حجم البيانات (Big Data)​


  • لم نعد نتكلم فقط عن:
    • حجم نفط
    • حجم قمح
    • حجم تجارة

بل أيضًا عن:


  • حجم بيانات:
    • كم جيجابايت تنتج شركة في اليوم؟
    • كم تيرابايت تتحرك عبر الإنترنت في الثانية؟

الحجم هنا:


  • ليس مادّة تُرى بالعين، بل معلومة تتحرك في الشبكات.

ب) حجم التفاعل​


  • عدد المشاهدات.
  • عدد الإعجابات.
  • عدد المشاركات.

كلها أحجام سلوكية رقمية:


كم شخصًا تفاعل مع هذا الحدث/السعر/الخبر؟



8) الخاتمة: من "كمية" حسية إلى عدسة لفهم الإنسان​


إذا جمعنا الرحلة كلها، نجد أن "الحجم" مرّ بمراحل:


  1. حجم غريزي للبقاء
    • يُشعر الإنسان إن كان عنده ما يكفي من طعام وماء وحماية.
  2. حجم منظم للعدل الاقتصادي
    • المكاييل والموازين لتنظيم الضرائب والتجارة والأجور.
  3. حجم هندسي ورياضي
    • معادلات لحجوم الأشكال، مدخل لفهم الكون والبناء.
  4. حجم فيزيائي
    • أساس للكثافة، الضغط، الجريان، الطاقة… قوانين حركة العالم.
  5. حجم اقتصادي واجتماعي
    • حجم الإنتاج، السكان، التجارة، الديون… لغة الاقتصاد الكلي.
  6. حجم سلوكي ورقمي
    • حجم التداول، حجم التفاعل، حجم البيانات… لغة لفهم سلوك البشر جماعيًا.

إسقاط سريع على عالم الأسواق (ربط بالواقع الذي يهمّك)​


في البورصة، عندما تنظر إلى "الحجم" أنت لا تنظر فقط إلى:


"كم سهم تم تداوله؟"

بل أنت تقرأ خلاصة آلاف السنين من تطور الفكرة:


  • نفس فكرة القمح في المخزن: هل الكمية تكفي لدعم هذا السعر؟
  • نفس فكرة الضرائب والمكاييل: هل هناك عدل أم تلاعب في الكيل؟
  • نفس فكرة حجم الحشود: كم عقلاً وكم عاطفةً شاركت عند هذا السعر؟

الحجم اليوم:


هو المرآة الرقمية لسلوك الإنسان عندما يقرّر "كم يشتري" و"كم يبيع" وفي أي مستوى ثقة أو خوف.
 
كيف انتقل هذا الارث عن مكانة الحجم في الفكر الانساني الى الاسواق المالية

سأجيبك من نفس الخط الذي سلكته منذ البداية:
من الفكر الإنساني → إلى السلوك الجماعي → ثم إلى الأسواق المالية
دون قفز، ودون افتراضات جاهزة.


📘

1) البداية: الحجم كطريقة الإنسان لفهم القوة​

في الذاكرة الإنسانية الأولى، لم يكن الحجم رقمًا، بل معنى:

  • الكثرة = قوة
  • القلة = ضعف
  • التراكم = أمان
  • التناقص = خطر
هذا الفهم لم يكن نظريًا، بل نتاج تجربة متكررة عبر آلاف السنين.
ومع التكرار، تحوّل إلى قاعدة ذهنية ثابتة.

وهنا نقطة محورية:

الإنسان لم يتعلم التفكير بالحجم…
بل بُني عقله أصلًا على التفكير بالحجم.

2) من الفرد إلى الجماعة: حين صار الحجم “سلوكًا مشتركًا”​

عندما عاش الإنسان ضمن جماعات، لم يعد الحجم متعلقًا بالفرد فقط، بل بالجماعة:

  • حجم القبيلة
  • حجم الحشد
  • حجم المشاركة
  • حجم الانسحاب
في هذه المرحلة، الحجم لم يعد فقط “كمية”،
بل صار إشارة على موقف جماعي.

أي:

  • كثرة المشاركين = توافق
  • قلة المشاركين = تردد
  • اندفاع جماعي = قرار
  • صمت جماعي = خوف أو انتظار
هنا وُلد أول شكل من قراءة السلوك الجماعي عبر الحجم.


3) التجارة الأولى: الحجم يدخل عالم التبادل​

مع نشوء التبادل التجاري، انتقل الحجم إلى سياق جديد:

  • كثرة المشترين على سلعة = ارتفاع قيمتها
  • كثرة البائعين = ضغط عليها
  • قلة التداول = شك في القيمة
لاحظ أن:

لا أحد اخترع هذا المنطق…
بل نُقل تلقائيًا من الحياة إلى السوق.
السوق لم يكن إلا مرآة مصغّرة للمجتمع،
والمجتمع كان يفهم القوة عبر الحجم.


4) من السلعة إلى السعر: أول انتقال حاسم​

حين تحوّل التبادل من سلعة مقابل سلعة
إلى سلعة مقابل سعر،

حدث انتقال مهم:

لم يعد السؤال:

  • هل السلعة كثيرة؟
بل أصبح:

  • هل الناس كثيرون عند هذا السعر؟
وهنا انتقل إرث الحجم من:

كمية الشيء
إلى
كمية القناعة حول الشيء
وهذا هو الجسر الحقيقي نحو الأسواق المالية.


5) المزادات والأسواق المفتوحة: الحجم يُرى بالعين​

في الأسواق المفتوحة والمزادات القديمة:

  • ارتفاع الأصوات
  • ازدحام الأجساد
  • سرعة تبادل السلع
  • كثرة الأيدي المرفوعة
كلها كانت تجليات مرئية للحجم.

التاجر كان يقرأ السوق هكذا:

  • الزحام = طلب
  • الفراغ = خوف
  • الاندفاع = فرصة
  • التراجع = خطر
أي أن الحجم كان يُقرأ بصريًا ونفسيًا قبل أن يُقاس رقميًا.


6) ولادة الأسواق المالية: الحاجة إلى ترجمة الإرث​

مع تطور الأسواق وتعقّدها:

  • لم يعد الحشد مرئيًا
  • ولم يعد الصوت مسموعًا
  • ولم تعد الأيدي مرفوعة
لكن السلوك لم يتغير.

فنشأت الحاجة إلى:

ترجمة ما كان يُرى ويُحسّ
إلى أرقام ورسوم.
وهكذا ظهر:

  • عدد الصفقات
  • عدد الوحدات المتداولة
  • حجم التداول
ليكون:

البديل الرقمي عن الزحام البشري.

7) لماذا استُقبل الحجم فورًا في الأسواق المالية؟​

لسبب جوهري:

لأن الحجم لم يكن غريبًا على العقل الإنساني.

حين رأى المتداول:

  • حجمًا مرتفعًا
  • حجمًا ضعيفًا
  • حجمًا ينفجر
  • حجمًا يختفي
لم يحتج إلى شرح طويل.
العقل استدعى ذاكرته القديمة تلقائيًا:

  • “الكل هنا”
  • “لا أحد هنا”
  • “حدث كبير”
  • “انتبه… شيء يتغير”
أي أن السوق لم يعلّم الإنسان لغة جديدة،
بل أعاد استخدام لغة قديمة.


8) من القياس إلى الدلالة: الحجم يصبح أداة فهم​

في هذه المرحلة، لم يعد الحجم مجرد رقم:

  • صار يُستخدم لتأكيد أو نفي الحركة
  • لقياس صدق الاتجاه
  • لمعرفة إن كان ما يحدث قرارًا جماعيًا أو حركة فردية
وهنا أصبح الحجم:

أداة تفسير للسلوك الجماعي داخل السوق.
وهذا هو التحول النهائي من الإرث الإنساني إلى التحليل المالي.


9) الخلاصة الجامعة​

انتقال إرث الحجم إلى الأسواق المالية لم يكن اختراعًا،
بل امتدادًا طبيعيًا لمسار إنساني طويل:

  1. الإنسان فهم القوة عبر الكثرة
  2. الجماعة عبّرت عن موقفها بالحجم
  3. التجارة جسّدت ذلك في التبادل
  4. السعر صار وعاءً للقناعة
  5. الحجم صار مقياسًا لتلك القناعة
وبذلك:

الأسواق المالية لم تخلق مفهوم الحجم،
بل ورثته من الإنسان،
ثم أعادت صياغته بلغة الأرقام.

الجملة الختامية التي تختصر كل المسار:​

حين دخل الإنسان السوق،
دخل ومعه ذاكرته…
وكان الحجم أول ما تعرّف عليه.
 
عودة
أعلى